الشرود الانفصالي Dissociative Fugue

الصدماتُ والمواقِف الصعبة التي نتعرَّض لها في حياتِنا اليوميّة قد تحفُر في نفوسِنا آثارًا عميقة ومؤذية، فتظهرُ على صورةِ تغيّر في الشخصيّة أو في أسلوبِ التعامُل مع المواقِف المختلِفة، وفي حالاتٍ أخرى قد تكونُ سببًا في ظهورِ الاضطراباتِ الانفصاليّة لدى البعض، والتي تتطوّر كآليّة تأقلُم تساعِد على تجنُّب الذكريات الصعبة، والهروب من الواقع بشكلٍ لاإراديّ وغير صحيّ، ويندرِجُ تحتَ الاضطراباتِ الانفصاليّة ما يُعرف باسم فقدانُ الذاكرَة الانفصالي، الذي ينطوي على حدوثِ فقدانِ ذاكرةٍ شديد، لا يمكنُ تفسيرُ حدوثِه بوجودِ أسباب طبيّة، ويعدُّ الشرودِ الانفصاليّ شكلًا من أشكالِ فقدانِ الذاكرة الانفصالي، فما هو الشرودِ الانفصالي؟ وما هي أهمُّ سماتِه؟   

ما هو الشرودِ الانفصالي؟

يعرفُ الشرودِ الانفصالي أو الشرودِ الانشقاقي أو الشرادِ الانفصالي (Dissociative Fugue) على أنّه شكلٌ من أشكالِ فقدانِ الذاكرة الانفصالي (Dissociative amnesia) الشديد والنادر، المتمثِّل بحدوثِ فقدانٍ للذاكرة مرتبِط بمعلوماتِ السيرةِ الذاتيّة الشخصيّة، إلى جانِب القيام بالتنقُل أو التِجوال أو ربّما تقمُص هويّة جديدة بصورةٍ غيرَ متوقَّعة ومفاجئة، وتحدُث هذهِ المشكلة جرّاءَ التعرُّض لصدمةٍ نفسيّة شديدة، في محاولةِ للهروب من الموقِف الذي يسبِّب التوتُّر الشديد والذي يصعُب التعامُل معه، ولكن عادةً ما تعودُ الذاكرة للمصاب تلقائيًّا، رغمَ أنّ حالتُه تستدعي في معظمِ الأحيان الخضوعَ للرعايةِ النفسيَّة التي تساعدُه على التعافي بشكلٍ تام.

ما هي أعراضُ الشرودِ الانفصالي؟

تختلِف الأعراض التي تظهرُ على المُصاب بالشرودِ الانفصالي من حالةٍ لأخرى، وبشكلٍ عام، من هذهِ الأعراض المحتمل ظهورُها:

أعراض خلالَ حالةِ الشرود: 

تظهرُ معظم هذه الأعراض عندما تستمِرّ الحالةُ لفترةٍ طويلة (أسابيع، شهور، وقتٌ أطول)، ومنها:

– الشعورُ بعدمِ التأكُد أو الإقرار بالأحداثِ التي وقعت في الماضي.

– ارتباكٌ شديد بشأنِ الهويّة الشخصيّة أو معلوماتِ السيرة الذاتيّة، سواءً كانت عن نفسِه، أو عن الآخرين، أو الأحداثِ التي تدورُ في حياتِه، وغيرَ ذلك. 

– حدوثُ المواجهة في حالةِ تحدّيه ومناقشتِه بشأنِ الهويَّة الشخصيّة.

– عدمُ المواظَبة على العمل، والذي يحدثُ بصورةٍ مفاجئة، أو تجنُّب الذهابِ للأماكِن التي اعتادَ الشخصُ الذهابَ إليها سابقًا.

– الشعورُ بالتوتُّر الشديد من العلاقاتِ الاجتماعيّة أو الأمور المتعلِّقة بالعَمل.

– عدمُ القدرةِ على تمييزِ الأشخاص الذين يحبُّهم.

– التجوُّل أو الذهاب إلى أماكِن لا يذهبُ إليها بالعادة.

– ورودُ الأفكارِ الانتحاريّة، أو الشعورِ بالاكتئاب والقلق، أو ظهور مشكلات الصحَّةِ النفسيّة الأخرى.

– ابتعادُ الشخص الذي يمرُّ في حالةِ الشرودِ الانفصالي عن حياتِه بصورةٍ مفاجأة، والبدء في بناءِ حياةٍ أخرى، والتي عادةً ما تكونُ مختلفةً عن تلك التي كان يعيشُها.

تستمرُّ أعراضُ الشرودِ الانفصالي في بعضِ الحالات بضعَ ساعاتٍ فقط، وفيها ينسى الشخص الآخرين ويشعُر بالارتباك، ولكنّه سرعانَ ما يعودُ لطبيعتِه خلالَ فترةٍ قصيرة، لذلك قد لا يُلاحِظ الأشخاص المحيطينَ بالمصاب أنَّهُ مرَّ في حالةِ الشرودِ الانفصالي، أضِف إلى ذلك، أنّ عدمَ ظهورِ أيّةِ أعراض أو علامات على المُصاب تشيرُ إلى إصابتِه بمشكلةٍ نفسيّة أو عقليّة قد تُعيقُ ملاحظةَ ما يمرُّ به من شرود خلالَ فترةٍ قصيرة، فهو مقتنِع من وجهةِ نظرِه أنَّ الهويّة الجديدة التي يُعرِّف بها نفسُه هي بالفِعل هويّتُه الحقيقيّة، ولكن، قد يُكشَف عن حالةِ الشرود فقط عندَ البدءِ بتحدِّيه ورفضِ تعريفِه بهويَّتِه.

أعراض بعد انتهاءِ حالةِ الشرود:

بعد انتهاءِ الحالةِ التي يمرَّ بها الشخص، فإنّه قد يعاني من أعراضٍ أخرى، منها:

– الشعورُ بالتوتُر والضغطِ النفسي من التواجُد في مكانٍ غيرِ مألوف.

– الشعورُ بالحَرَج والخجلِ الشديد.

– الدخولُ في حالةِ اكتئاب.

– المرورُ بمرحلةِ الفجع، والحزنِ الشديد.

– الشعورُ بالانزعاج أو الغضب.

– الشعورُ بأنَّهُ تائِه ولديهِ الكثيرُ من الوقتِ المفقود.

أسبابُ الشرودِ الانفصالي:

يحدثُ الشرودُ الانفصالي غالبًا بسبب:

– التعرُّض لصدمةٍ أو إساءَةٍ جنسيّة شديدة.

– التعرُّض لصدمةٍ بسببِ الحَرب.

– الإحساسُ القوي بالحرَج أو الشعورِ بالذنب.

– التعرُّض للاختطاف أو التعذيب.

– التعرُّض للإساءَةِ العاطفيّة أو الجسديّة في مرحلةِ الطفولة.

– الصدماتُ الناجمة عن الكوارِث الطبيعيّة.

– الصدماتُ الناجمة عن حوادث المركبات.

– الشروعُ بالانتحار.

– ارتكابُ جريمةِ قتل.

– وجودُ شخصٍ في الأسرة يعاني من الشرودِ الانفصالي، فهذا يزيدُ من خطورةِ التعرُّض للمشكلة.

ومن المشكلاتِ النفسيّة والعقليّة التي قد يصاحِبُها الشرودِ الانفصالي:

اضطرابُ الهويّةِ التفارقي (Dissociative identity disorder)‏: هو الذي يتميّزُ بوجودِ شخصيَّة أو أكثر للمصاب، وهذا ما يُشعرُه بفقدانِ السيطرةِ على أفكارِه وتصرفاتِه، وعادةً ما تظهرُ هذه الحالة بسببِ التعرُّض لصدمةٍ شديدة خلالَ مرحلةِ الطفولة، مثل الإساءةِ الجنسيّة، أو العاطفيّة، أو الجسديّة، ويعدُّ الشرودُ الانفصالي من الأعراضِ الشائعة التي تصاحِبُ اضطرابَ الهويَّةِ التفارُقي، كون الشخصيات المتعدّدة لا تشارِك عادةً الذكريات.

فقدانُ الذاكرةِ الانفصالي (Dissociative Amnesia): هو الذي يحدثُ كآلية دفاعيّة تحمي الشخصَ من استرجاعِ الأحداثِ المؤلمة أو المؤذِيَّة، جرّاءَ تعرُّضِه لواحدٍ أو أكثر من الأحداثِ المؤلِمة، أو بسببِ الضغطِ المستمِرّ الذي يعانيه، وغالبًا ما يؤثِر هذا الاضطراب في الإناث بصورةٍ أكبر مقارنةً بظهورِه لدى الذكور، ويصاحِبُه عادةً الإصابة باضطرابِ الهويَّة التفارُقي، الذي قد يكونُ الشرود الانفصالي من أعراضِه.  

تشخيصُ الشرودِ الانفصالي:

لا يوجد اختبارٌ معيّن يمكنُ استخدامُه للكَشفِ عن الإصابةِ بالشرودِ الانفصالي وتشخيصُه، ولكن عند مراجعةِ الطبيب، فإنّه غالبًا ما يوصي بإجراءِ العديدِ من الفحوصات لاستبعادِ أيَّةِ مشكلاتٍ صحيّة وأمراض أو إصاباتٍ قد تكونُ السّببَ وراءَ حدوثِ فقدانِ الذاكِرة، وفي حال ثبُتَ عدمُ وجودِ أيِّ مشكلة عضويّة أو صحيّة، فإنّهُ غالبًا ما يطلبُ من المُصاب مراجعةَ الطبيبِ النفسي أو المختصّ في مجالِ الصحَّةِ النفسيَّة.

في هذهِ المرحلة، يعتمِد الأخصائيُّ النفسي على تقييمِ الحالة التي يعانيها المُصاب، ومعرِفَة المشكلات التي يواجِهُها، والحصولُ على كافَّةِ المعلومات التي قد تُفيدُه في التشخيص، وبعدَ التشخيص، قد يبدأُ العِلاج.

علاجُ الشرودِ الانفصالي:

كما بينّا سابقًا، فإنّ بعضَ حالاتِ الشرودِ الانفصالي تبدأُ وتزول بسرعة خلالَ فترةٍ قصيرة، ولكنّها في حالاتٍ أخرى تظهرُ على شكلِ نوباتٍ متعدّدَة خلالَ فتراتٍ طويلة قد تصِل إلى سنوات، لذلك، يهدُف العلاج في حالاتِ الشرودِ الانفصالي إلى تعزيزِ التعامُل السليم مع الحدَثِ الصادِم الذي حفّزَ حدوثَ نوبةِ الشرود، كذلك تطويرُ استراتيجيّات تأقلُم لمنعِ تكرارِ حدوثِ المشكلة مرّةً أخرى، والمساعدةُ على استرجاعِ الهويّة الحقيقيّة، وتقوية وتحسينِ العلاقات، والانخراطِ مرّةً أخرى في المهامِّ اليوميَّةِ العاديَّة، وإعادَةُ التواصُل مع طبيعةِ الحياة قبلَ حدوثِ الصدمَة.

ومن أنواعِ العلاجات المستخدَمة للتعامُل مع الشرودِ الانفصالي:

– العلاجُ النفسي؛ لفهمِ أنماطِ التفكيرِ جيدًا والتعمُّقِ فيها.

– العلاجُ العائلي، للتأكدِ من تلقِّي المصاب الدعمَ اللازِم.

– العلاج بالأدوية للمشكلاتِ النفسيّة التي يُعانيها المُصاب، مثل القلق والاكتِئاب، رغمَ عدمِ توفُّر علاج دوائي يساعد على التحكُّم بحالةِ الشرودِ الانفصالي حتى وقتنا الحاضِر.

– العلاج بالتنويمِ الإيحائيّ.

– العلاج بالفن (Art therapy) لاستكشافِ المشاعِر بطريقةٍ آمنة.

– العلاج السلوكي الجدلي (Dialectical behavior therapy or DBT) الذي يساهِمُ في السيطرَةِ على المشاعِر العنيفة.

– إزالة التحسُس وإعادة المعالجة عن طريقِ حركةِ العين (Eye movement desensitization and reprocessing or EMDR)، لعلاجِ استرجاعِ ذكريات الماضي (Flashbacks)، وأعراضِ التوتُّر بعدَ الصدمة.

– التأمُل وتقنياتُ الاسترخاء للسيطرةِ على الأعراض وتنظيمِ المشاعِر الداخليّة.

نصائِح للمصابِ بالشرودِ الانفصالي:

تزدادُ خطورةُ حدوثِ محاولاتِ الانتحار أو إيذاءِ النفس بين الأشخاصِ الذينَ يعانونَ من الشرودِ الانفصالي، وهذا يعني حاجةَ المُصاب إلى الرعايةِ المكثَّفة من قِبل الأخصائيّ المدرّب والمتعلِّم والمؤَهّل بشكلٍ كامل، لذلك، في حال راودتكَ أفكارٌ انتحاريّة أو شعرتَ برغبةٍ في إيذاءِ نفسِك أو غيرِك، فحاوِل مباشرةً طلبَ الرعايةِ الطبيّةِ الطارِئة، والتواصُل مع أقرَب جهة قد تُقَدِمُ المساعدة اللازمة.

ومن النصائِح الأخرى للتعامِل مع الشرودِ الانفصالي:

– تلقّي العلاج الملائِم للسيطرةِ على الأعراض.

– الالتزامُ بالعِلاج الذي يوصي به الطبيب للتعامُل مع المشكلة التي سبّبَت الشرود.

– محاولةُ تجنُّبِ المحفِّز الذي يثيرُ حدوثَ الشرودِ الانفصاليّ.

– ممارسةُ التأمُل أو غيرِها من التقنياتِ التي تساعِد على التحكُّم بالمشاعِر الداخليَّة.

– الحصولُ على الدعمِ والمساعدة من أفرادِ العائِلة.

– الانتظامُ على تناولِ الأدويةِ التي يصِفها الطبيب.

– الانشغالُ بأعمالٍ إبداعيّة تساعدُ على تفريغِ الطاقاتِ والعواطِف، مثل الرسم أو التلوين. 

مساعدةُ شخصٍ يعاني من الشرودِ الانفصالي:

من الاقتراحاتِ التي قد تُمكِّنُك من تقديمِ المساعدةِ للمصاب:

– ملاحظَة المحفِّزَات أو المثيرات التي من المحتَمل أن تُسبِّبَ الشرودَ الانفصالي لدى المُصاب، وكيفَ أنَّها قد تؤثِرُ على شعورِه.

– حضورُ جلساتِ العلاجِ النفسيِّ مع المُصاب لزيادةِ المعرِفة حولَ المشكِلة التي يعانُيها، والآليّة التي يمكِنُ من خلالِها تقديمُ المساعدةِ له.

– التأكُّد من أنَّ الشخص يتلقّى الرعايةَ الصحيّة المناسِبة، ويتناولُ أدويتُه حسب توجيهاتِ الطبيبِ النفسيّ.

في كثيرٍ من حالاتِ الشرودِ الانفصالي، يستعيدُ الشخص ذاكرَتَهُ تلقائيًّا ويعودُ لحياتِهِ الطبيعيَّة كما كانت من قبل دونَ تلّقي أيَّ علاج، ومع ذلك، يجبُ الأخذُ بعينِ الاعتبار الحصولَ على المساعدةِ الطبيّة المتخصِّصَة في حالاتِ التعرّضِ إلى الشرودِ الانفصالي كونُها تحدثُ غالبًا بسبَّبِ التعرُّض لصدمةٍ نفسيَّة شديدة، فإنَّ العلاج يساعدُ على معرفةِ أفضلِ الطُّرق للتأقلُم مع الموقِف، والتأكُد من عدمِ تكرارِ الدخولِ في حالةِ الشرودِ الانفصالي بمجرَّد التعرُّض للمحفِّز، وبالطبع، يوفِّرُ الدعم والمساعدة من العائِلة والأصدقاء، بيئةً ملائِمة تساهِمُ في التعافي، فالشرودُ الانفصالي مثل غيرِه من الأعراضِ النفسيَّة التي يمكِنُ التعامُل معها والسيطرَةُ عليها تحتَ الإشرافِ الطبيِّ المتخصِّص.

*** تمّت الكتابة والتدقيق من قِبَل فريق إعداد المحتوى.

المراجع:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Scroll to Top