عدم التواجد عاطفيًّا (Emotional Unavailability)

تواجهكَ أحيانًا بعض العقبات عندما تبدأ في محاولة بناء علاقات عاطفية مع الآخرين، فأحيانًا تفتقد العلاقة للتوافق الفكري أو السلوكي أو غيره، ويُحكَم عليها بالفشل، بينما يُصادفك في حالات أخرى أشخاص مختلفين، ربما تشعر أنهم مناسبين جدًّا لك، وأفكارهم متوافقة مع أفكارك، إلّا أنّك تواجه صعوبة في التواصل معهم بعُمق، فهم يتجنبون الحديث عن عواطفهم، ويتجنبون إظهار المودّة، وربما تشعر معهم أنّكَ مُخطىء بكونكَ عاطفيّ، ربما هذا ما يُمثِّله عدم التواجد عاطفيًّا، والذي سيدور الحديث عنه في هذا المقال.

 

ما هو عدم التواجد عاطفيًّا؟

لمعرفة ما هو عدم التواجد عاطفيًّا علينا في البداية تعريف ما هو التوافّر عاطفيًّا، فقد عرّف الباحثون التوافّر عاطفيًّا (Emotional availability) على أنّه استجابة الأفراد عاطفيًّا والتآلف تجاه حاجات وأهداف الآخرين، والقدرة على إبقاء الروابط العاطفية في العلاقات، ويعتمد أساس هذا التوفر العاطفيّ على قبول مجموعة واسعة من المشاعر بدلًا من الاستجابة للضغوطات فقط، كمشاعر الغضب مثلًا، فالتوفّر أو التواجد العاطفي لا يشمل الاستجابة للمشاعر السّلبيّة فحسب، وإنما للمشاعر الايجابيّة أيضًا، كمشاعر السّعادة.

وفي الجانب الآخر يُعرف عدم التوافر عاطفيًّا أو عدم التواجد عاطفيًّا (Emotional Unavailability) على أنّه عدم قدرة الشخص على التواصل مع مشاعر شريكه أو مشاعره، ومواجهة صعوبة في الانفتاح عاطفيًّا والخوف من الألفة، والابتعاد عن مناقشة أحاسيسه، وقد يترتب على ذلك عدم التعمّق قي العلاقة وتطورها، فالأشخاص هنا يواجهون صعوبات في العلاقات ويفضّلون إبقاء التّعامل مع الآخرين برسميّة مع وجود مسافة.

 

كيف ينشأ عدم التواجد عاطفيًّا؟

قد يكون سبب ظهور حالة عدم التواجد عاطفيًّا متعلّقة بالأسباب الآتية:

مشاكل التعلّق

فقد توصَّلت إحدى الدراسات إلى أنّ عدم التواجد أو عدم التوافر عاطفيًّا مرتبط بوجود خلل في التعلّق يتطور في مرحلة الطفولة، كما في حالات التعرّض للإساءة أو الإهمال أو العنف المنزلي، فأنماط التّعلّق والتّعاطف مرتبطان. 

الحزن الشديد والفجع بسبب الانفصال

في كثيرٍ من الأحيان تكون تجربة إحدى العلاقات كافية لأنْ تُغير طريقة التعامل في العلاقات التالية، بالأخص عندما تنتهي العلاقة بانفصال صعب، أو تكون في مرحلة التعافي من علاقة سامّة أو مُسيئة، أو حدث فيها خيانة، أو إعطاء مشاعر بلا مقابل.

التعرض لظروف طارئة

إذْ يكون عدم التواجد عاطفيًّا في بعض الأحيان مؤقتًا؛ كأنْ ينبع عن التركيز على الوظيفة أو مشاكل الأصدقاء، أو ربما المرور في فترة اكتئاب وحزن؛ قد يكون من الصعب فيها المحافظة على إبقاء التواصل العاطفي مع الأحبّة طبيعيًّا، أو ربما أسباب أخرى طارئة غير متوقَّعة.

وبكلّ الأحوال قد يظهر عدم التواجد عاطفيًّا في أيْ مرحلة من مراحل الحياة، غير أنّ هنالك مجموعةً من الأمور التي قد تؤثر على تطوّره؛ مثلًا، قد يكون لدى بعض الثقافات نظرة معيّنة تجاه تعبير الرجل عن مشاعره، كاعتبارها ضعفًا، وأنّه من الأفضل أن يتّسم بمظاهر القوة ويبتعد عن المشاعر الّتي يصفونها بالضّعف، ومع ذلك يجب التأكيد على رفض فكرة أنّ جميع الرجال يعانون من انعدام التوافر العاطفي.

 

ما هي علامات أو أعراض عدم التواجد عاطفيًّا؟

في الآتي مجموعة من العلامات التي يُمكنكَ من خلالها معرفة ما إذا كنتَ تُظهِر عدم التواجد عاطفيًّا: 

  • لا تثق بالآخرين بسهولة، فدائمًا ما تُشكّك في نوايا الناس خاصةً في حالة التعرّض لخيانة سابقة.
  • تخاف من الالتزام العاطفي وتتهرّب من الالتزامات المطلوبة منك في العلاقة بشكل عام، إذْ ينتابك شعور بأنّ العلاقة العاطفيّة عبارة عن وظيفة عليك القيام بها، أكثر من شعورك بترابط تجاه شريكك، فمثلًا، إذا كنت في علاقة عاطفية فإنّك تتجنّب تسميتها أو تطوير العلاقة وطلب الزواج، وإذا كنت في علاقة صداقة فأنتَ تتجنّب القيام بالخطط أو تقوم بإلغائها.
  • تتجنّب الأحاديث الطويلة والعميقة وتنسحب منها، كما أنّكَ لا تشارك الآخرين همومهم، وتشعر بعدم الرّاحة عند البوح بمشاعرك لهم.
  • تخاف من فقدان الاستقلالية عند الدخول في علاقة، وهو ما يُسبب القلق عند الاقتراب من الشريك، بينما في العلاقات الصحيَّة يوازن الشركاء بين حاجات الأفراد والالتزام العاطفيّ.
  • تترك خياراتك مفتوحة، فأنتَ تحاول إعطاء فُرصة لرؤية أشخاص آخرين؛ ربما لتجنّب تطوير التعلق بشخص واحد.
  • دائمًا تكون في موقف دفاعيّ، أو ربما تبدأ بإلقاء اللوم على الآخرين بسبب مشاكل معينة، ونادرًا ما تدخل في نقاش حول العلاقة أو إيذاء المشاعر، أو حاجة شريكك أنْ تقوم بتغييرات على سلوكك.

 

ومن العلامات التي قد تلاحظها على شريككَ غير المتواجد عاطفيًّا:

  • لا يلجأ إلى تسمية العلاقة بينكما، مما يجعله غير واضح معك.
  • يلجأ إلى التقليل من شأن مشاعرك، وربما يحاول استخدام الفكاهة في ذلك، وهذا قد يجعلكَ تشعر بأنّك إنسان عاطفيّ للغاية.
  • قد يحمّلك مسؤولية مشاكلكَ ويلومك عليها، ولا يمكن أن يلوم نفسه.
  • يشعر بعدم الراحة عند فتح موضوع عاطفي، لذلك غالبًا ما تبقى الحوارات سطحية ولا تتعمّق كثيرًا.
  • يتجنّب التواصل البصري أو التلامس الجسدي، و قد يكون ذلك في بعض الحالات ظاهرًا عليه، ولكنّها ليست قاعدة ثابته.
  • غير منتظم أو غير ملتزم في علاقته معك؛ فمن الممكن أنْ يمتنع عن مراسلتكَ لأيّام دون استجابة، أو أنْ يختفي من حياتك لأسابيع، وبعدها يعود فجأة.
  • يختار مشاركتك الخطط والأنشطة التي تتناسب مع روتينه الخاص به واهتماماته هو فقط دون الاهتمام باهتماماتك أنت، حيث أنه غير مستعد لإعطاء الأولوية لاحتياجاتك واحتياجات العلاقة على احتياجاته الخاصة.
  • لا يبادر في نجاح العلاقة وبذل الجهد فيها.
  • يعكس مشاعرك أنت بدلًا من أن يعبّر عن مشاعره الخاصة به، مثلًا قد يرد على تعبيرك عن مشاعرك بجملة مثل " أنا أشعر بنفس الطريقة".

 

هل يمكن للأشخاص غير المتواجدين عاطفيًّا أن يقعوا في الحب؟

أجل، بالتأكيد يُمكنهم تطوير مشاعر حب تجاه الشريك، ولكنْ ليس من السّهل لهؤلاء الأشخاص معرفة طبيعة مشاعرهم تحديدًا والتّعبير عنها بالكلمات، كما أنّه من الصعب عليهم الدخول في علاقة حب بما أنّ مُشكلة عدم التواجد العاطفي غالبًا ما يكون مصدرها الخوف الشديد من الرفض أو الألفة، لذلك يجدون أنفسهم غير مُقدمين في العلاقة ويتراجعون سريعًا لحماية أنفسهم. 

 

بماذا تختلف الشّخصيّة النّرجسيّة عن الغير متواجدة عاطفيًّا؟

من الممكن الخلط بين اضطراب الشّخصيّة النّرجسيّة وحالة عدم التواجد العاطفي، ولكنّهما مختلفتان عن بعضهما، فالأشخاص الذين يعانون من عدم التواجد العاطفي يواجهون مشاكل في التعبير عن مشاعرهم، وهذا أيضًا قد يكون لدى الشّخص النّرجسي ولكن قد تُميّز شخصيتهم العلامات التالية أيضًا:

  • الشّعور بالتّميّز والعَظَمة والاستحقاق.
  • الرغبة في أنْ يكون محبوبًا أو محطًا للإعجاب.
  • الحاجة الدّائمة للشعور بالقوّة، والنجاح، والذكاء.
  • الشعور المبالغ فيه بأهميّة النفس.
  • الشّعور الدّائم بقلّة التّعاطف مع الآخرين.

 

نصائح للتعامل مع عدم التواجد عاطفيًّا

عدم التواجد العاطفي يكون في بعض الحالات مؤقتًا، ولكنّه يتطوّر أحيانًا عن أسباب يكون التعامل معها والتغلب عليها أكثر صعوبة، ومع ذلك، عندما يُركّز الشخص على تغيير شيء بقوة وإرادة يُمكنه ذلك، ومن النصائح التي قد تُساعدكَ في هذا الأمر:

 

  • ركّز على تحسين علاقتكَ الحاليّة، وحاول أن تُفصح عن ما في داخلك لشريكك، وقبل ذلك، قد يُساعدكَ التحدث مع صديق ثقة أو فرد في العائلة عن العواطف، أو تدوين العواطف والمشاعر في دفتر يوميات، أو استخدام الموسيقى أو الفن للتمرّن على التعبير عن المشاعر، أو مشاركة المشاكل العاطفية باستخدام الرسائل النصية في بداية الأمر.
  • خذ استراحة من تكوين علاقات جديدة حتى يتسنَّى لك أولًا التركيز على علاقتكَ بنفسك، ومعرفة مخاوفك وما يؤثر على علاقاتك العاطفية، وما سبب مشكلتك، فمثلًا، إذا كنت قد تعرضتَ مُسبقًا لانفصال عن الشريك بصورة سيئة، قد تكون بحاجة لبعض الوقت حتى تتمكّن من التقرّب لشخصٍ آخر.
  • حاول تحسين مشكلتكَ في عدم التواجد عاطفيًّا ببطء وبشكلٍ تدريجيّ، فلا يُمكنْ إظهار التحسّن في العلاقة خلال ليلة وضحاها، بل وربما يُسفر عن التسرّع وإجبار النفس على تقوية العلاقة العاطفية والانفتاح على الشريك الشعور بالتوتر وعدم الراحة.
  • حاول التواصل مع الشريك وتوضيح المُشكلة وكيفية تعاملكَ معها، فمثلًا، قد يُساعدكَ في البداية البقاء على تواصل معه عن طريق الرسائل النصية عند الحاجة لبعض المساحة، ومشاركة المشاعر مع بعضكما البعض بكتابة الملاحظات.
  • تواجد مع أشخاص علاقاتهم العاطفية قوية وطويلة الأمد، وراقب كيفية تفاعلهم مع بعضهم البعض، خاصةً عندما يكون سبب عدم التواجد عاطفيًّا متعلّقًا بمشكلات في التعلّق أو أنماط العلاقات غير الصحية.
  • حاول الإحساس بعواطفك ليسهل عليك الدخول في علاقة عاطفيّة صحيّة.
  • ابدأ بحبّ نفسك وتقبّل عواطفك ومشاعرك بدلًا من كتمانها.
  • حاول معرفة السبب الكامن وراء عدم تواجدك عاطفيًا وقم بحل المشكلة من جذورها.
  • يُمكنكَ اللجوء للتأمل واتباع نهج اليقظة الكاملة (Mindfulness)، والتي قد تساعدكَ على الشعور بارتباط مع العواطف.
  • اطلب المساعدة من الطبيب النّفسي ليقوم بتوجيهك ودعمك، خاصةً في حالة عدم القدرة على التعامل مع المشكلة وتعقيدها، فأحيانًا تكون أسباب المُشكلة هي الإهمال في مرحلة الطفولة.

 

من جهة أخرى، إن كان شريكك يعاني من عدم التواجد العاطفي، يمكنك مصارحته بالأمور التي تزعجك في العلاقة وقم بالإشارة لبعض سلوكياته وتصرفاته التي تضايقك وتشعرك بعد تواجده عاطفيًا معك. قم كذلك بتشجيعه على طلب المساعدة المتخصصة ووفر له الدعم والتشجيع في حالة طلبه للمساعدة.

 

وفي الختام، عدم التواجد العاطفي قد يكون مُرهِقًا ومُعيقًا لتكوين علاقات دائمة وصحية، ولكنْ يُمكنكَ التعامل معه باتباع استراتيجيات عِدة، ذكرنا بعضًا منها في المقال، كالتعاون مع الشريك والتعبير عن المشاعر تدريجيًّا وبوسائل مختلفة، وغيرها، كما أنّ مراجعة الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي قد تساعدكَ على تخطّي أيْ عقبات أو مشكلات في حياتك سبّبت تولّد هذه المُشكلة لديك، وحاول دائمًا إحاطة نفسك بأناسٍ ثقة يُمكنك البوح لهم عن ما يجول في خاطركَ، وما تشعر به تجاه علاقتك العاطفية، وإذا كنتَ تتعامل مع شخص يعاني من عدم التواجد عاطفيًّا، يُمكنكَ مساعدته وتفهّم ما لديه مع التحلي بالصبر والرحمة، ولا تظنّ أنّ لديك القدرة على حل المشكلة وحدك، ولا تعتقد أنّ بإمكانه تغيير شعوره وطبيعته بسرعة وسهولة.

 

*** تمّت الكتابة والتدقيق من قِبَل فريق إعداد المحتوى     

 

المراجع:

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Scroll to Top